سادت إلى زمن قريب في عدد من المناطق القروية في سوس مستغلات زراعية وسط الدواوير أو خارجها بالمناطق البورية، تدعى “البحاير” أو “تبحيرين”، تتميز بمساحاتها الصغيرة أو المتوسطة، وكانت تشكل المصدر الأساس لعيش الساكنة، فضلا عن توفير الكلأ للماشية، ويعتمد المزارعون القرويون على أدوات تقليدية في الحرث والسقي وكل الأنشطة داخل هذه المستغلات.
وإلى وقت قريب أيضا، ظلت مشاهد العربات المجرورة بالدواب والمحملة بمختلف أنواع الكلأ تؤثث هذه المناطق القروية، فضلا عن مشاهد الخضرة التي تسر الناظرين، إلى جانب مشاهد الدواب وهي تسير جيئة وذهابا أو دورانا في جلب المياه من الآبار، قبل أن تحل محلها محركات “بيتير” و”دوتز” وغيرهما التي تملأ الصهاريج (شاريج) المبنية بالمواد المحلية.
الحسين بسموم، مهتم بالتراث، قال لهسبريس إن “البحاير أو الجنانات بسوس وأشتوكن السهلية على الخصوص، لها ارتباط وثيق بالأرض وبالمعيش اليومي للساكنة، وهي تعني مساحات خضراء جذابة، لعبت إلى عهد قريب دورا كبيرا في الأمن الغذائي للساكنة؛ إذ غالبا ما توجد وسط الدواوير وبمحيطها”.
“وتتميز هذه المستغلات بصغر مساحتها، التي لا تتجاوز في الغالب هكتارين، وتستغل من أجل الزراعة التقليدية والمعيشية، منها المسقية بطريقة تقليدية وتتواجد بوسط الدواوير، ومنها البورية وتوجد بالمحيط، ومن بين المزروعات التي تنتج بالبحاير الحبوب والقطاني وبعض الخضروات، بالإضافة إلى كلأ الماشية كالبرسيم، كما يتميز أغلبها بالأشجار المثمرة كالتين والعنب والرمان”، يورد المتحدث.
وتعتمد هذه المستغلات في كل مراحل الاستغلال، من حرث وسقي وجني وحصاد وغيره، على أدوات تقليدية؛ “ففي مجال الري، تستعمل الطريقة التي تدعى الغمر، وهذه العملية تتم عبر تمرير المياه إلى وزون، وهي مربعات ومستطيلات وأشكال هندسية مشكلة من التربة، تضم مزروعات ومغروسات، دون استعمال لأي صنف من القنوات أو ما شابه”.
وعلاقة بالسقي، فنظام جلب الماء له خصوصيته هو الآخر؛ إذ يتم الاعتماد أساسا على بئر محفورة بطريقة تقليدية، يستخرج منها الماء باستعمال الدواب التي تجر الحبال المنتهية بما يسمى محليا بـ”ألوكاف”، وهو كيس كبير مصنوع من الجلد أو المواد المحلية، كما يسمى المكان الذي يفرغ فيه الماء بـ”المكب”، الذي ينتهي إلى “الشاريج”، أي الصهريج، وتسمى المسافة التي تمر منها الدابة لجر الحبال بـ”الممشى”، وهناك طرق أخرى كاستعمال الناعورة و”الباريان”.
إلى حدود أواسط الثمانينات من القرن الماضي، انتشرت “البحاير” أو “تبحيرين” في مناطق عديدة من سوس، لا سيما في سهل اشتوكة، ولعبت أدوارا غاية في الأهمية، أبرزها كونها مصدر عيش الساكنة، إلى جانب دورها البيئي والجمالي، غير أنه يلاحظ اليوم انقراض هذه الأنواع من المستغلات الزراعية لأسباب متعددة.
وقسم الحسين بسموم، المهتم بالتراث، أبرز الأسباب التي أدت إلى انقراض هذا النوع من المستغلات إلى أسباب طبيعية وأخرى بشرية وحضارية، من ضمنها التوسع العمراني وزحف الإسمنت، إلى جانب نظام الإرث وتعقيداته، مما قزم تلك المساحات وحولها إلى “علب إسمنتية”، زيادة على عدم قدرتها على مسايرة الكثافة السكانية المتزايدة من حيث توفير المعيشة الضرورية، وانتشار الزراعة العصرية التي تفرض توفر مساحات شاسعة وإمكانيات عصرية.