“كأنّه يدخلنا إلى محيط الجسد على ذروة الموج” هكذا ختم أدونيس تقديمه ل”كتاب الحب”، العمل الشعري الفني الذي أبدع الشاعر محمد بنيس في كتابة تقاطعاته في ضيافة طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي.

في نتفة من “كتاب الحب” يقول بنيس:

شِعرٌ يُقَطِّعُ الأيدي

جفاءٌ يُغافلُ

الحُضور.

إنّ حضور الشاعر محمد بنيس في المشهد الشعري المغربي العربي العالمي يعود إلى “ما قبل الكلام”، فيه يحكي كلّ “شيء عن الاضطهاد والفرح”، له “وجه متوهج عبر امتداد الزمن”، يمشي “في اتجاه صوتك العمودي” أدراج رياح “مواسم الشرق”. لعلّ الشاعر محمد بنيس يكتب على “ورقة البهاء” ما منحته “هبة الفراغ”، ويقرأ في “كتاب الحب” حين يختلي في “المكان الوثني”عبارة تقول إن شراب أهل الشعر “نبيذ”.

إنها توليفة من عناوين بعض المجموعات الشعرية التي كتبها محمد بنيس بين عام 1969 وعام 2003، نجحت أعمالها الشعرية المتميزة في نقل مفهوم كتابة القصيدة، واستطاعت أن تغير مسار الشعر في المغرب.

نشد الشاعر محمد بنيس منذ سبعينيات القرن الماضي ممكنات تحوّل النص الشعري، ورغم أنه وقتها لم يكن يملك رؤية صافية، إلاّ أن خلخلة ما كانت حاضرة عنده لمعانا محرقا يخترق الأصابع وترى البياض وكأنه كلام لا يشبه الكلام. كان طموحه تبيان وجهة نظر تستند إلى الخصوصية المغربية ومن تمّ تغيير مسار الشعر.

في بيان الكتابة المنشور عام 1981 في العدد التاسع عشر من مجلة “الثقافة الجديدة”، يقول الشاعر محمد بنيس: “..أما الشعر، فمازالت تواجهه حالة ضاقت بصمتنا هنا في المغرب على الأقل. لم توجد بيننا صناعة شعرية تتجذر ممارستها. إذن، كيف ننسى، كيف نستمر في تجريب خارج اللغة والجسد والتاريخ؟ نحن في حاجة إلى البداية. إنها السلطة التي لا تقوم الكتابة بدونها. من يدعي هذه البداية، يؤسّسها، يشرّعها”.

اعتبر محمد بنيس البيان الذي كتبه بمثابة احتفال برؤية مغايرة للعالم، في محاولة للاحتفاظ لهذه الرؤية في الشعر بحرارة التجربة والكشف والتجاوز، مؤكدا بأن بيانه لا يدعي تمثيل جيل السبعينيات في المغرب إنما كان يريد من خلاله طرح ما هو أبعد، وأن يكون دفعا صريحا للآخرين إلى الارتباط بالقلق وتبني السؤال.

يرتفع صوت الشاعر محمد بنيس عاليا حين يتحدث عن الشعر المغربي، وحين يدعو إلى إخراجه من حدود مساحته المُغْفلة في زمنها المختصر، وإلى ضرورة اختراقه لكل ما هو جاهز ومغلق ومستبد، مطالبا بعدم نسيانه بين رفوف المكتبات العامة والخاصة. فالشعر كما يراه بنيس ليس سببا للكسب ومجرد رغبة في ملء الصفحات البيضاء أو ادّعاء أبحاث ودراسات تكرّس تخلّفه. إنّ الشعر المغربي عليه أن يستطيع امتلاك فاعلية الإبداع.

وبما أنّ الشعر المغربي حسب رأيه قد عاش في ماضيه ضروبا من القهر، ما كان له إلا أن يخضع لتطور تاريخي معقد ومشروط بما هو موضوعي وخارج عن ذوات ونيات الأفراد. فاستيقاظ الشعر المغربي منذ العشرينيات إلى السبعينيات على أن الشعر شهادة، قد جعل مفهوم هذه الشهادة والوعي الشعري يخضعان إلى ذلك التطور. لكن الانقطاع وتأثر السابق باللاحق وغياب مبادرة التساؤل والتأسيس، كلها عوامل ألغت فاعلية البحث في ماهية الشعر وفاعلية المشاركة في تثوير الشعر العربي.

ومازال الشاعر محمد بنيس إلى يومنا يؤكد بأن الزمان في الكتابة مضاد لحتمية البداية والنهاية فزمان الكتابة تجربة وممارسة، يعيد فيه الجسد تكوينه باختياره. وبأن الكتابة دعوة إلى ضرورة إعادة تركيب المكان وإخضاعه لبنية مغايرة. إنها صناعة وتركيب لكون آخر محتمل، تتم فيه اعادة تكوين الأشياء والأسماء وفق قانون مغاير، له الوعي النقدي، له المحو، الحلم، الاشتهاء، لا بداية له ولا نهاية، نفي لكل سلطة، تناول للوجود والموجودات من أفق يحث على التحرر المتكامل.
لقد أغنى الشاعر المغربي محمد بنيس الحقل الثقافي المغربي والعربي شعراً ودراسةً وترجمةً. وكلما تأملنا تجربته الإبداعية الشعرية والنقدية نجدها مبعث فخر لكلّ غيور على الثقافة، وهي بلا شكّ تجعله شاعراً أهلاً لكلّ تكليف وتشريف.

واحتفاءً بهذا التجربة يسرنا أن جعلت أكاديمية المملكة المغربية من اليوم العالمي للشعر 21 مارس لهذه السنة مناسبة لتكريم الشاعر المغربي محمد بنيس.

هنيئاً لشاعرنا.

ودام له الإبداع عطاءً وبذلاً.

hespress.com