لا يمكنني أن أنسى ما وقع لي ذات يوم حين كنت أعتزم الاشتغال في مؤسسة للبناء، حيث اجتزت الامتحان الشفوي للقبول في العمل بنجاح أمام رئيس الشركة، الذي أثنى علي كثيرا وشرح لي أنني سأصبح مكلفا بمهمة التسويق لمنتوج المؤسسة وإعداد تصور لتطوير خدماتها لصالح الزبناء.. قلت له تفاعلا مع ترحيبه إنني ممتن لهذا التكليف المشرف وسعيد بالالتحاق بشركتكم العتيدة ولا شك عندي أنني سأكون أهلا لتلك المهمة.

بعد حديثنا، نادى رئيس المؤسسة على أحد الموظفين وطلب منه اصطحابي إلى مكتبي لكي ألتحق بعملي مباشرة ودون انتظار، خصوصا وأنني لم أعبر عن أي شرط بخصوص الأجر الذي سأتقاضاه مقابل عملي.

هكذا تبعت ذلك الموظف الذي قادني إلى مكتبي معتقدا أنني سأجده مجهزا بالحاسوب والأدوات المكتبية الضرورية، وإذا بي أتفاجأ بأنه لا يوجد في المكتب لا طاولة ولا كرسي ولا حتى أوراق أو حاسوب، كل ما كان هنالك هو طبل كبير و”غيطة” تقليدية وبضع “دربوكات” كتلك التي تباع في عاشوراء.

إذ ذاك، قلت لذلك الموظف متسائلا بنبرة خجولة: هل تسمح لي أن أسألك يا أخي؟ لقد طلب مني السيد الرئيس أن أشرع في عملي فورا، فهل سيتم جلب الوسائل التي سأحتاجها للقيام بواجبي من قبيل طاولة وكرسي وحاسوب على الأقل؟

أجابني دون تردد: هون عليك يا أخي ولا تتسرع فأنت لن تحتاج غير ما يوجد في هذه الغرفة؟

أنا: ولكنني عينت في هذه المؤسسة مكلفا بالتسويق والتخطيط..

الموظف: نعم، طبعا. ذلك هو دورك وأنا ليس عندي دور آخر في المؤسسة سوى إيصال الموظفين الجدد إلى مكاتبهم، هذا كل ما لدي لأقوله، وإن كانت عندك أسئلة تتعلق بوظيفتك يمكنك انتظار زيارة رئيسك المباشر الذي سيشرح لك بالضبط ما عليك القيام به.

هكذا كان جواب الموظف الذي انصرف دون أن يضيف أي شيء آخر، بينما بقيت في مكتبي أو بالأحرى في غرفتي وحيدا حائرا أتساءل وعيناي تجولان في تلك الآلات الموسيقية: ما هذا؟ أليست هذه مؤسسة بناء معروفة بتاريخها ورصيدها العريق في مجال العمران أم أنني أخطأت في العنوان؟

اكتملت تقريبا نصف ساعة وأنا على تلك الحال لا أحرك ساكنا في انتظار زيارة رئيسي المباشر إلى أن تفاجأت برجل بدين عريض المنكبين وساطع الجبهة وهو يفتح باب الغرفة بشكل همجي “تقريبا”، ويدخل منها ثم يكلمني دون مقدمات وبنبرة عالية قائلا: ماذا تظن نفسك فاعلا؟ هل شغلناك هنا لكي تصمت؟

أنا: عفوا أخي، من أنت؟

الرجل: ألا تخجل من الحديث مع رئيسك المباشر بهذه الطريقة؟

حاولت هضم أسباب غضبي وعزة نفسي في أحشائي متفاديا الدخول في حالة سوء فهم وظيفي وقلت بيني وبين نفسي: لعله اختبار خاص تجريه الشركة لملتحقيها الجدد فلا داعي للتسرع برد الفعل.

لكن الرجل لم يكن ليتركني أستقر في التفكير بشكل بارد من الأعصاب بل استمر في الصياح بشكل هيستيري: ما بك جامد قاعس؟ ألا تريد أن تعمل في التسويق؟

قلت له: أي نعم، ولكن ما هي مهمتي بالضبط وما علاقة هذه الأدوات الموسيقية التقليدية بوظيفتي.

فأجاب: دورك الأساسي يتجلى في التطبيل والتغييط وإذا أحسنت في عملك فقد تصبح راقصا ماهرا…..

ضحكت كثيرا ثم غادرت مقر تلك المؤسسة بلا رجعة بطبيعة الحال.

hespress.com