الخميس 03 شتنبر 2020 – 06:55
ما معنى أن تحصل أحداث عنيفة متفرقة في أكثر من مدينة مغربية في عاشوراء؟ هل كان ذلك بسبب عاشوراء؟ وبسبب احتفال غريب عجيب بعاشوراء اندلعت فيه نيران الحرائق ونار العنف ليتمازجا في مشهد رُعب؟ هل هذه الصيغة في الاحتفال مُترسِّخة في وجدان المغاربة إلى هذا الحدّ؟ أبدًا. هل عدم إضرام النار في عاشوراء يُعَدُّ تخلّيًا عن طقس ديني؟ أبدًا.
إضرام النار بهذه الطرق البدائية وإطلاق المفرقعات والشُّهُب النارية وإحراق الإطارات المطاطية في الدروب والأزقة والساحات في أحيائنا الشعبية كان عبثًا سمجًا تعاملَتْ معه الدولة بتسامح مُريب في السنوات الأخيرة فاستشرى، قبل أن يأخذ اليومَ بُعدًا لم يكن في الحسبان.
صحيح أنّ المصالح الأمنية تعاملت هذه السنة بشكل استباقي وتمكّنت لحسن الحظ من حجز 279.059 من المفرقعات و10.275 من الشهب النارية في تمشيطها لمختلف المناطق الحضرية للبلاد. لكنّ كل هذه الاحتياطات لم تمنع الكارثة.
والحصيلة التي تداولها المغاربة على شكل فيديوهات كانت صاعقة مؤسفة.. والكلّ بطبيعة الحال يُدين العنف الذي حصل: إصابة 28 من عناصر الشرطة والقوات العمومية وإلحاق الأضرار بعَشْرٍ من سياراتهم، إضافة إلى تخريب عدد من ممتلكات المواطنين وسياراتهم.
حتى الاعتقالات التي طالت 157 من هؤلاء، بينهم العديد من المراهقين الطائشين، اعتُبِرت مشروعة ولم ترتفع الأصوات الحقوقية المؤثِّرة لتعترض عليها؛ فهيبةُ الدولة منزَّهَة عن العبث. والكثير من المواطنين آلمَهُم منظر رجال الأمن وهم يفِرُّون مذعورين في الفيديوهات فيما جحافل الأطفال والمراهقين تطاردهم وتركض وراءهم بالكثير من “البسالة”، بالمعنى الدّارج لهذه الكلمة.
ومع ذلك، هل يكفي أن نُدين ما حصل ونُطلق حملة الاعتقالات ونضع الملفات بين يدي القضاء، لِنَنْفُضَ أيدينا من الموضوع ونطوي الصفحة؟..
مع الأسف، هذا لا يكفي.
هل يكفي أن نعتبر هذه الجحافل من اليافعين “وحوشًا ومُجرمين يستحقّون أقسى العقوبات”، وأن يردّد الرأي العام هذا الكلام بلا تحفُّظ، وكأنّ هؤلاء الشباب ليسوا أبناءنا وليسوا إنتاجا خالصا لأسرتنا المغربية وتعليمنا العمومي وإعلامنا الوطني وسياساتنا العمومية قبل هذا وذاك؟..
بلى، إنهم منَّا وإلينا.. منَّا وعلينا، مع الأسف، ومحاولةُ التّملُّصِ منهم بهذه الطريقة الاختزالية ليست حلًّا.
ما المطلوب إذن؟
المطلوب فتح نقاش عمومي لكي نفهم ما جرى، ولكي لا يتكرّر ما حصل، ولهذا بالضبط هناك إذاعة وتلفزيون. هذه الوسائل والقنوات توفِّرها الدولة وتصرف عليها من المال العام فقط لكي نناقش فيها مع الشعب وبِلُغَة الشعب ما يجري ويدور.
لدينا مثقفون من عيار ثقيل، باحثون متمكِّنون في العلوم الاجتماعية وعلم النفس الاجتماعي، لدينا محلّلون مرموقون..كلهم مركونون على جنب، مهمَّشون من طرف إعلامنا العمومي. في وقت نحتاجهم اليوم باستعجال لفتح نقاش عمومي جديد على أمواجنا وشاشاتنا الوطنية. والمؤكَّد أنّ بعض المهووسين بنِسَب المتابعة من المسؤولين في التلفزيون، الذين لا تصدُر اختياراتهم الإنتاجية والبرمجية إلا عن هذا الهاجس، سيُفاجَؤون بأنّ الشعب مُتعطِّشٌ لفهم الظواهر التي نمَت داخله في غفلة منه. سيكون المغاربة في الموعد، وسيُتابِعون.
نحتاج نقاشا عموميا يُشرِّح أسباب العنف الحضري المتزايد في بلادنا لكي نتجاوز القصاصة الأمنية التي تختزل الموضوع كله في بضعة أسطر مكثفة تتحدّث عن: أحداث شغب محصورة في الزمان والمكان، ضحايا في صفوف رجال الأمن، اعتقالات، محاكمات، وكفى الله المؤمنين القتال.
نحتاج نقاشا عموميا لا يستعجل الأجوبة بقدر ما ينشغل بالأسئلة الشائكة المتشابكة. ولأنني صحافي مهنتُهُ طرحُ الأسئلة، ها هي بعض الأسئلة التي تمنَّيتُ لو هناك مجالٌ لطرحها في نقاش عمومي على أهل المعرفة بعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي وسيكولوجية المراهقين وسيكولوجية الحشود، إضافة إلى المسؤولين عن تدبير الفضاء العام من مختلف الاختصاصات، والشباب أنفسهم. قلت الشباب لاقتناعي التام بأنه من المستحيل أن تكون تلك الحشود المُتفرقِعَة في الشارع العام عمياء خرساء، لا يمكنها أن تكون من دون صوت كما يحاولون تقديمها لنا.
لا شكّ أنّ لهذه الحشود صوتًا، بل أصواتًا متعدّدة.. قد تكون صارخةً، مرتبكة، ركيكة، متلعثمة، بذيئة، ساقطة. لكن كيفما كان الحال، أصواتٌ من حقّها علينا أن نسمعها، وأن نحاورها. وهذه وظيفة النقاش العمومي، ومسؤولية الإعلام العمومي في تأطير المجتمع والمواطنين، وهو جزءٌ لا يتجزّأ من الخدمة العمومية.
واسمحوا لي بأن أفكّر بصوت مسموع: أليس ما حدث في شوارع بعض مدننا المغربية بمناسبة عاشوراء بمثابة حرب شعواء يخوضها الشباب واليافعون من أجل استرداد الفضاء العمومي الذي يشعرون كما لو أنه انتُزِع منهم غصبًا في الأشهر الأخيرة؟.
لقد عاشت هذه الشريحة العُمْرِية بشكلٍ سيّء الحَجْر الصحي القاسي المُتواصل منذ مارس الماضي.. وجدوا أنفسهم بسبب الجائحة محرومين من “حريتهم” و”تلقائيتهم” و”اندفاعهم” و”شغبهم” و”انفلاتهم” و”شغفهم بالحياة”. خصوصا في الأوساط الشعبية الفقيرة، حيث كانت فرص الالتفاف على الحَجْر نادرةً بل تكاد تكون منعدمة. الميسورون ومتوسطو الحال سرقوا مع ذلك فسحًا قصيرة، بينهم من قضى لحسن الحظ بضعة أيام في الشاطئ والجبل والمزرعة.. ولديهم ربما فللٌ بحدائق، أو على الأقل بيوتٌ بطوابق وأسطح تتيح لهم نصيبهم الخصوصي من الشمس والسماء، وكذا الحدّ الأدنى من مجال الحركة بين طوابق البيت، ولديهم إمكانات مادية لامتلاك بعض المباهج وأسباب التسلية ووسائل الترفيه.
شبابُ السَّكن الاقتصادي والأحياء الهامشية والعشوائيات ومدن الصفيح محرومون تمامًا من هذه الفرص.
طبعًا لسنا هنا بصدد مساءلة دور الحكومات المتعاقبة في صناعة وتقوية هذه الهشاشة، ربما لأنّ علينا التركيز أكثر على تحليل الوضع الراهن عسانا نستوعب فداحته وخطورة أثره على نفسية اليافعين والمراهقين والشباب. لقد عاشت هذه الشريحة زمنا نفسيا صعبا خصوصا مع نزول السلطة المحلية بقوة من أجل ضمان حَجْر شامل..
نزولٌ حازمٌ تخلّله بعض القهر والتعسّف والشّطط في استعمال السلطة. وكلّنا نتذكّر الفيديو الشهير الذي يُصوّر أحد القياد يصفع شابًّا في عرض الشارع. ومع ذلك كان حضور السلطة مطلوبًا، وأعطى أُكْلَه في الفترة الأولى من الحَجْر، وغالبية المغاربة صفَّقوا له بحرارة؛ لكن علينا أن نتخيّل وطْأته على هذه الشريحة التي كانت مطالَبَةً بأن تحبس خيولها الجامحة في أقفاص ضيّقة، ولمدةٍ زمنية طالت، ولا تريد أن تنتهي..
لذا ما إن وجدوا هذه الفسحة أمامهم حتى اتّخذوا عاشوراء ذريعةً وحاولوا الانتقام، حاولوا بطريقتهم الشنيعة – يجب تسمية الأشياء بمُسمَّياتها – استعادةَ شارعٍ لا يملكون غيره، ويشعرون كما لو أنه سُرِقَ منهم.. الشارع هو حرّيتهم وفضاء عيشهم الأساسي.
شباب لم يألفوا ارتياد المسارح ودور الشباب وقاعات السينما والحدائق العامة. وخارج المدارس التي كانت مغلقة طوال هذه الأشهر، كل ما يملكه هؤلاء للانعتاق من أقفاصهم السَّكنية هو الشارع، وها هم ممنوعون منه.. وخطابُنا في الإذاعة والتلفزيون لم يخترقهم ليُقنِعهم بأنّ الدولة حينما تحدُّ من حركتهم في الشارع لا تمنعهم ولا تقصد الحَجْر عليهم وتقييد حريتهم بقدر ما تسعى إلى حمايتهم من الوباء، لكن من يُقنعهم بذلك؟
هل هذا الخطاب النّمطي الذي يتردّد منذ بداية الجائحة في إعلامنا، والذي لم ننتبه حتى الآن إلى ضرورة تغييره لأنه بدأ منذ أسابيع يعطي أثرًا عكسيًا؟ هل بهذا الخطاب المكرور سنعبّئ هؤلاء الشباب ونؤثّر عليهم؟..
إننا إزاء أسود سجينة في أقفاص.. شباب وجدوا أنفسهم لأشهرٍ محبوسين وسط أُسَرِهم فاحتدم صراع الأجيال بينهم وبين أوليائهم، وجدوا أنفسهم يعيشون مع آباء فقدوا وظائفهم ومصادر رزقهم بسبب الوباء وبسبب الحَجْر.. رأوا الناس يُسرَّحون من وظائفهم فتفاقم إحساسهم بعدم الأمان هم الذين كانت نظرتهُم لمستقبلهم الشخصي رمادية قبل الوباء، فإذا بها تزداد اليوم حلكةً وسوادًا. إننا إزاء قنابل موقوتة، فماذا أعدَدْنا لتعطيلها قبل أن تبدأ في الانفجار في وجوهنا تباعًا؟.
لو كان المشكل مشكل عاشوراء لتجاوَزْنا الأمر، فهذه المناسبة صارت خلفنا الآن. لكن المشكل أننا كنّا إزاء لحظة إعلان مُزلزِلَة عن حنَق شبابي عامّ نخشى أنّه يتحوّل بالتدريج إلى حقد، ونخشى أكثر أنه سيعثر على ذرائع أخرى للإعلان عن صخبه وعنفه..
لست أدري، قد تكون المنافسات الرياضية القارية المقبلة لفريقي الوداد والرجاء مثلا. فنحن نعرف أن الاحتقان يولِّد العنف، سواء كابدْنَا مرارة الهزيمة والإقصاء أو ذقنا حلاوة الانتصار والتأهُّل. فالعنف المُستعِر لا تهمُّه النتيجة، يحتاج فقط الفرصة والذَّريعة. وقد خبِرْنا عنفَ الملاعب في هذا البلد ومرارًا اصْطَلينا بناره. عنف الحشود الغوغائي، الصادر عن نفس الأسباب، نخشى أنه يتفاقم اليوم مع الأسف.
لذا، يجب التعامل بجدّية مع الموضوع..والمُقاربة الأمنية وحدها لا تكفي.. أبدًا لا تكفي. لا بدّ من فتح نقاش عموميّ نسمع فيه أصوات الجميع: سوسيولوجيين، علماء نفس، علماء تربية، فاعلين مدنيين وسياسيين، مسؤولين حكوميين. ثم الشباب أيضًا، بل الشباب أساسًا؛ فصوتُ هؤلاء غائبٌ إلى حدّ الآن..
نحن لا نسمعهم، وأخشى أننا لا نعرفهم. وحتى حينما نحاول بشكلٍ محتَشِمٍ استضافة الشباب في التلفزيون، نستدعي شبابًا آخرين لا يمثِّلون هؤلاء، بل هم أجهل منّا بهم؛ فالفوارق الطبقية المُستشرية في البلد، ومعها الأبارتايد التعليمي، جعلت جحافل أبناء المدرسة العمومية، خصوصا في الهوامش المقصيّة، يبدون وكأنهم أبناء شعب آخر لا علاقة له بمُتَمَدْرِسي التعليم الخاص من أبناء الفئات الراقية والطبقة الوسطى. فالفئة الأخيرة هي التي تُعطى الكلمة اليوم، ونتصوَّر أنّها الأجدر بتمثيل المدرسة في الصحافة والإعلام وعلى منصات الحوار والاحتفال. شبابٌ نجيبٌ مُنتقى بعناية يردّد نفس مسكوكات الكبار ويقول الكلام الذي يرضيهم. وهذه مُصادرة على المطلوب تكاد تصير تزويرًا.
لذا علينا أن نُتيح للشباب الفرصة ليُسمِعنا صوتَه في وسائل الإعلام الرسمية إذا أردناه بالمقابل أن يمنحها هو الآخر بعض اهتمامه، ويتواصل معها وينتبه لخطابها ويتلقى رسائلها. وإلّا فهو مُكْتَفٍ إلى حدود الساعة بإعلامٍ على مقاسه تُتيحه وسائل التواصل الاجتماعي. إعلامٌ سائبٌ عشوائيٌّ يُساهم في تعميق الأزمة، بل لعلّهُ أحد أوجُهِها المُستَحْدَثة.
إننا بلد مستقر، ونحن نستحقُّ الاستقرار. لكنّ الاستقرار لا يترسَّخ إلّا بالحوار.. الاستقرار اللازم والشامل يحتاج إلى حوار مستمر مُتواصل؛ فمن يخشى الحوار في هذا البلد؟ من يتصوّر أنّ الاستقرار لا يتأتّى إلا بالمزيد من تكميم الأفواه وغلق المجال أمام الحوار؟.