يقارب مدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات، إدريس لكريني، من خلال مقاله الجديد على هسبريس، الأهمية الإستراتيجية للعلاقة بين البلدان المغاربية ودول الاتحاد الأوروبي، ويسوق القرائن على أن تعزيزها وجعلها متوازنة سيخدم مصالح الطرفين، وذلك في مقابل رصده مختلف مظاهر اختلال التوازن الذي يكدر صفو هذه العلاقة، ويأتي على حساب دول الضفة الجنوبية من المتوسط.

ويورد كاتب المقال في سياق حديثه عن أهمية العلاقات بين الطرفين أن “الاتحاد الأوروبي يستأثر بأكثر من 60 في المائة من المعاملات التجارية المغاربية الخارجية”، موردا أن العلاقات بين الجانبين رغم ما شهدته من تطور كبير على مختلف الواجهات؛ إلا أنها “ظلت في مجملها علاقات مختلّة وغير متوازنة”، والسبب في نظره “تركيز الجانب الأوروبي على الجوانب الأمنية؛ في مقابل تهميشه قضايا الاستثمار والتعاون الاقتصادي، وبخاصة مع توجهاته لمنح الأسبقية لدول أوروبا الشرقية في هذا الإطار..”.

ولتحقيق الاستقرار في منطقة المتوسط وتحقيق مكاسب شتى لكافة دولها، يقترح الكاتب لكريني على دول الاتحاد الأوروبي “إرساء شراكة متوازنة مع البلدان المغاربية”؛ مشيرا إلى أن “إعمال إصلاحات سياسية متينة داخل هذه الأخيرة، تعزّز هذا الاستقرار، يظل مشروطا في جزء مهم منه بتقديم الدعم الاقتصادي وتوجيه الاستثمارات نحو المنطقة، وتعميق التعاون في مجالات التعليم والبحث العلمي والصناعات الحديثة والتكنولوجيا”..

وهذا نص المقال:

تنطوي علاقات البلدان المغاربية مع دول الاتحاد الأوروبي على قدر كبير من الأهمية الإستراتيجية بالنسبة للطرفين؛ بالنظر إلى عدد من العوامل والاعتبارات، التي يمكن إجمالها في الجوار الجغرافي المتّصل بالفضاء المتوسطي، وحجم المصالح والمبادلات الاقتصادية، حيث يستأثر الاتحاد الأوروبي بأكثر من 60 في المائة من المعاملات التجارية المغاربية الخارجية،.. كما لا تخفى الأهمية الإستراتيجية لمنطقة المتوسط التي تحتضن الجانبين، وما يحيط بها من مخاطر وتحديات أمنية مشتركة عابرة للحدود، كما هو الشأن بالنسبة للإرهاب الدولي، والهجرة السرية..

تزداد أهمية هذه العلاقات إذا استحضرنا أن أمن دول المنطقة يتجاوز الحدود بالنسبة للطرفين، إلى المحيط الجيوبوليتيكي، أضحت معها المنطقة المغاربية وقضاياها المختلفة تحظى بأولوية كبيرة ضمن اهتمامات مراكز القرار والبحث العلمي داخل أوروبا.

تشكّل منطقة المتوسط، بشكل عام، فضاء يعكس التباين الواضح بين ضفة شمالية تعيش معظم دولها مظاهر من التقدم على المستويات الصناعية والفلاحية والاقتصادية والتكنولوجية والاستقرار السياسي.. وضفة جنوبية ما زالت الكثير من أقطارها تعيش على إيقاع العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية..

شهدت العلاقات بين الجانبين تطورا كبيرا على مختلف الواجهات؛ لكنها ظلت في مجملها علاقات مختلّة وغير متوازنة، وفي صالح دول الضفة الشمالية للمتوسط. فعلى الرغم من الجهود المبذولة في هذا الخصوص، والتي يعكسها إبرام العديد من الاتفاقيات واتخاذ مجموعة من المبادرات، منذ إعلان برشلونة عام 1995 الذي أولى العناية للتعاون والتنسيق في المجالات الأمنية والسياسية والحقوقية والتجارية الداعمة لاستقرار المنطقة، فإن واقع الممارسات ومضامين التقارير والأبحاث العلمية تؤكّد أن الحصيلة الميدانية لم تكن بحجم طموح وانتظارات الدول المغاربية بصدد عدد من الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك، بسبب تركيز الجانب الأوروبي على الجوانب الأمنية؛ في مقابل تهميشه لقضايا الاستثمار والتعاون الاقتصادي، وبخاصة مع توجهاته لمنح الأسبقية لدول أوروبا الشرقية في هذا الإطار..

يتوافر الطرفان على مجموعة من المقومات التي تدعم تطوير التعاون المشترك، فالاتحاد الأوروبي يشكّل سوقا مربحا لعدد من المنتجات المغاربية، سواء تعلق منها بالمواد الفلاحية والخيرات السمكية أو مصادر الطاقة؛ فيما يمثّل التعامل المغاربي مع دول الاتحاد الأوروبي فرصة لتطوير الاقتصاد ولنقل التكنولوجيا.. والاستفادة من تجربتها في مجال التكتل، وتوفّر الدول المغاربية من جانبها، سوقا مربحا للمنتوجات الأوروبية، وواجهة استراتيجية تفرض التنسيق بصدد عدد من الملفات ذات الاهتمام المتبادل.

إن دعم الاستقرار في منطقة المتوسط يتطلب من دول الاتحاد الأوروبي إرساء شراكة متوازنة مع البلدان المغاربية. كما أن إعمال إصلاحات سياسية متينة داخل هذه الأخيرة تعزّز هذا الاستقرار يظل مشروطا في جزء مهم منه بتقديم الدعم الاقتصادي وتوجيه الاستثمارات نحو المنطقة، وتعميق التعاون في مجالات التعليم والبحث العلمي والصناعات الحديثة والتكنولوجيا..

كما أن هناك الكثير من المعضلات كالإرهاب والتهريب والهجرة السّرية.. تعمّقها هشاشة الوضع في منطقة الساحل وتمركز الجماعات المسلّحة، وتأزم الوضع الليبي..، تتطلب حلولا مستدامة، وفي إطار من التنسيق والتعاون بين الجانبين، بصور تتجاوز ردود الفعل الآنية أو المقاربات الفوقية..

إن تحقيق هذا الرهان تكتنفه الكثير من الصعوبات والتحديات؛ ذلك أن جمود الاتحاد المغاربي يفوّت على دوله، التي تعد الأقلّ ترابطا من الناحية الاقتصادية والتجارية في العالم، عددا من الفرص الاقتصادية والاستراتيجية. وجدير بالذكر أيضا أن غياب الاتحاد المغاربي يكلّف حتى دول الاتحاد الأوروبي من زوايا مختلفة..

وإذا كان هذا الأخير يملك أهدافا محدّدة وشروطا واضحة، فإن البلدان المغاربية تتصرف بمنطق أحادي، في غياب رؤية مشتركة في هذا الإطار، بل ويطبعه التنافس أحيانا؛ الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الاتحاد الأوروبي لإبرام شراكات ثنائية تقوم على التعامل مع كل دولة على حدة، وهي العلاقة التي يظل فيها الطرف الأوروبي هو الرابح دائما.

إن تجاوز مختلف التحديات التي تعوق بناء علاقات جدّية وندّية بين الطرفين، تقوم على الربح المشترك، ما زالت تصطدم كذلك بالمبالغة في استحضار الجوانب الأمنية من قبل الأوروبيين على حساب التعاون الشامل، والأمن ببعده الإنساني.

وتشير الإحصائيات الاقتصادية إلى أن الدول الأوروبية غير المتوسطية لا تولي أهمية كبرى للعلاقة الاقتصادية مع البلدان المغاربية؛ فيما يزداد التخوّف من الانعكاسات السلبية المحتملة للإشكالات الداخلية التي باتت تواجه الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة، سواء تعلق الأمر منها بانسحاب بريطانيا من هذا التكتل، أو بتباين المقاربات المعتمدة بصدد ملف الهجرة وتصاعد المد اليميني.. على تطوير هذه العلاقات.

يعدّ تعميق العلاقات الاقتصادية بين الجانبين هو الضامن الأساسي للتعاطي مع مختلف المشاكل والتحديات الأخرى بشكل فعّال. كما أن وجود مجالين متباينين من الناحية التنموية، وتفاقم الهوة والفجوة بينهما، ليس في صالح المنطقة المتوسطية بضفتيها. ولا تخفى أهمية تقديم المساعدات في تحقيق التنمية داخل البلدان المغاربية عبر إرساء شراكات حقيقية تتجاوز البعد الإحساني، لدعم هذه الدول في مواجهة عدد من الإشكالات والمخاطر العابرة للحدود.. وتزداد أهمية التعاون على المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية، مع تصاعد التنافس الدولي في إفريقيا بشكل عام، وعلى المنطقة المغاربية بصورة خاصة.

إن إرساء تعاون مبني على منطق رابح – رابح يقوم على الموازنة بين القضايا الأمنية من جهة والجوانب الاقتصادية والإنسانية من جهة أخرى وعدم الفصل بينهما أضحى ضرورة ملحّة بالنسبة للطرفين، وهو رهان يظل متوقفا على توفير المناخ اللازم لانتعاشه، من حيث المساهمة في تدبير الأزمات، وإطلاق مبادرات أوروبية تدعم الاستقرار في المنطقة (الأزمة الليبية، وتطور الأوضاع في منطقة الساحل الإفريقي)، والقيام بمساعٍ حميدة ووساطات تسمح بتفعيل الاتحاد المغاربي.

hespress.com